من زمن طويل لم أقرأ أي دراسة تحلل الواقع بهذه الشفافية والموضوعية ...ـ
حيث تعودنا الدراسات الاستفزازية التي تخاطب المشعر أكثر مما تخاطب العقل...ـ
بقلم: ياسين الحاج صالح
كاتب هذه السطور منحاز إلى فكرة أن الصراع العربي الإسرائيلي "صراع جودي" فعلا. فلا مجال للتعايش مع إسرائيل التي قامت تجربتها المكونة على طرد شعب كامل من أرضه بالقوة، والتي يقتضي دوامها بالذات نفيه ونكران وجوده أو مساواته لها في المرتبة الوجودية. ونتكلم على صراع وجودي لأن دوام مشروع إسرائيل يقتضي إبادة مستمرة للوجود الوطني والسياسي للفلسطينيين، ما يعني أن لا حياة لفلسطين دون تحجيم المشروع الإسرائيلي ونزع صهيونيته، ما يعادل في الواقع زوال إسرائيل ذاتها. والعرب معنيون جميعا بهذا الوضع، ليس لقرابتهم مع الفلسطينيين فقط، وإنما كذلك لأن إسرائيل تعتبر ذاتها امتدادا "للعالم الحر" (الغرب) وقيمه، الأمر الذي يعني امتناع الشراكة والندية بينها وبين محيطها العربي. ومن جهته يكفل "العالم الحر" وجودها وأمنها وتفوقها النوعي على العرب مجتمعين، مع حرص أشد على أن لا يجتمع العرب أبدا.إسرائيل كيان غير طبيعي وثمرة مشروع صنعي، أوربي إنشاءً وأميركي رعاية وتحصينا، مشروع يتجدد خلقه باستمرار بالقوة والتغذية الصنعية من الغرب .والطريقة التي يتكلم بها اليوم زعماء غربيون على التزامهم الثابت بإسرائيل وأمنها (ساركوزي، مؤخرا) و"تفوقها النوعي" (أوباما) ليست غير أخلاقية ومثيرة للاشمئزاز وعدائية حيال العرب فقط، وإنما هي برهان إضافي على انتماء إسرائيل للغرب، وعلى غربتها وجذرية تعارضها مع مطامح العرب الاستقلالية والتحررية. الصراع مع إسرائيل وجودي فعلا.لكن بمجرد الكلام على صراع وجودي ينبغي أن نضيف إنه صراع تاريخي، وإلا انقلب إلى صراع عدمي، باهظ الكلفة الإنسانية ومدمر لمجتمعاتنا قبل غيرها، بالنظر إلى أن الكيان المعتدي فائق التسلح، تُظاهِره على الفلسطينيين والعرب الكتلة الدولية الأقوى والأغنى والأكثر تحضرا في العالم، الغرب.والكلام على صراع تاريخي يقتضي أن يتجه تفكيرنا إلى المدى الطويل، العقود والأجيال، لا إلى الزمنية السياسية والعسكرية القصيرة، وإلى الوسائل الثقافية والسياسية والاقتصادية والعلمية والأخلاقية في الصراع، مع تفادي الوسائل العسكرية إلى أقصى حد ممكن. فمن شأن التعويل الحصري على سبل المواجهة العسكرية، أن يكون بمثابة هو بمثابة استدراج للنفس إلى الهزيمة،ما دام عدونا متفوقا علينا في هذا المضمار إلى درجة واسعة.
ولذلك ينبغي أن نضيف أن الصراع الوجودي والتاريخي هو أيضا صراع "حضاري"،الفوز فيه للأكثر تحضرا. وكلمة حضاري في هذا السياق تفيد التقدم المادي(التعليمي والعلمي والاقتصادي والتقني..) وكذلك المثال الأخلاقي الرفيع المتجسد في حياتنا الاجتماعية ونظمنا السياسية. وينبغي الاعتراف بأن إسرائيل المتفوقة علينا تفوقا حاسما في الدائرة المادية، ليست متأخرة عنا في الدائرة الثانية. في مدة ثلاثة أسابيع دامها التنكيل بغزة، و33 يوما استطالت لها حرب تموز 2006 ضد لبنان، سبق لأنظمة عربية أن نجحت في قتل عشرات الألوف من مواطنيها، وليس أقل من 1500 من أعدائها في كل من المواجهتين. إسرائيل تسترخص حياة العرب، لكن قبلها هذه الحياة رخيصة فعلا، لطالما كان سهلا العبث بها وتبديدها والتخلص منها بيسر بالغ، وعلى يد النظم التي تتكلم على مواجهة إسرائيل أكثر من غيرها.
ورغم أن الشر الإسرائيلي نوعي، لا يقاس بعدد الضحايا وحده، بل بالخصوص في العدوانية الجوهرية المستمرة للكيان الإسرائيلي وفي عنصريته المتأصلة،النافية للمساواة مع الفلسطينيين والعرب (هو ما يتضمن كإمكانية مجردة إبادة العرب أجمعين إن تعرضت إسرائيل لخطر وجودي)، رغم ذلك فإن استمرار المجتمعات العربية قيد التخلف والطغيان، يعود على إسرائيل بتفوق حضارييضاف إلى تفوقها العسكري والسياسي .
وأول ما يعول عليه لخوض صراع وجودي فهو تمكين وجودنا وتعزيزه وترسيخه،ومنح الأولوية لبناء نموذج ثقافي ونمط حياة منافس للنمط الإسرائيلي ومؤهلمع الزمن للتغلب عليه. وهذا يوجب بداهة رفع قيمة حياة مواطنينا، وجعل كل منهم مركزا لحق بالحياة والحرية لا يستلب.والواقع أن من الممكن فعلا منذ الآن إيذاء إسرائيل وتنغيص حياة المحتلين وحرمانهم من الأمن المطلق الذي لا يرتضون بأقل منه، وذلك حتى بقوى أدنى من قواهم بكثير. لكن ثمن ذلك شيئان: دمار واسع يلحق بمجتمعاتنا وينال من فرص حياة كريمة لمئات ألوف أو الملايين منا، فضلا عن الضحايا المباشرين؛ وتصلّب نفسي وروحي في مجتمعاتنا أيضا، ينال من نوعية الحياة فيها، ويضيق آفاق الفكرية والروحية وتوقعاتها من الحياة، ويقلل من هوامش التسامح والتنوع الفكري والسياسي فيها. وهذا يتحقق أكثر وأكثر منذ ربع قرن على الأقل. فلماذا نثابر على نهج قد يزعج عدونا، لكنه يدمرنا ماديا وسيكولوجيا؟
يبدو لي أن الإصرار على هذا المسلك، رغم عقمه الظاهر وعدميته الأكيدة،موصول بملاءمته لترسيخ هياكل سلطة استبدادية لا بجدواه التحرريةالمعدومة. إنه يضمن ويسوغ الاستنفار اللازم من أجل تقييد السكان سياسيا والتلاعب بوعيهم ومنعهم من البادرة السياسية المستقلة، وتركيز السلطة والثروة في أيدي حاكميهم.وبهذه الصفة فإن المسلك هذا معاكس لتمكين وجودنا ورسوخنا في العالم الذي يقتضيه صراع وجودي مديد. وهو ما تشهد عليه الهجرة المتسعة من مجتمعاتنا، للشباب بخاصة. فيا لها من سياسة هذه التي ينهزم فيها المواطنون، بينما يبقى الوطن "صامدا"! وليست الهجرة إلى الماضي والدين مختلفة عن الهجرة على الخارج من حيث ترتبها على تحويل صراع وجودي إلى معركة سياسية أو خطة للصراع السياسي والعسكري هنا والآن، أي إلى صراع عدمي. وقبل ذلك من حيث كونها مسعى بديلا للتمكين الوجودي. والحال إنه ثمة تناقض منطقي في الكلام على صراع وجودي يكون سياسيا وعسكريا في الوقت نفسه. فالصراع السياسي نسبي بطبيعته، يوظف المواجهات المسلحة المحتملة كأدوات منضبطة بالسياسة، لكنه يحتمل بطبيعته أيضا تسويات وحلول وسط ومساومات وصفقات وتنازلات متبادلة.. فيما الصراع الوجودي هو صراع نفي متبادل بطبيعته (وإن أخذ الإلغاء، ويفضل أن يأخذ،شكل انحلال تدريجي للعدو). فإذا أصررنا على الجمع بينهما حصلنا على الحرب المطلقة، أي العنف المنفلت غير المقيد بميدان أو بزمان أو بقواعد من أي نوع، العنف الذي يستهدف الاجتثاث الجذري والفيزيائي للعدو، إبادة مجتمعه ومحق كيانه، وليس مجرد فرض الإرادة عليه، على نحو ما تَقرَّر لنظرية الحرب عند كلاوسفيتز التي نستند إليها في هذه المناقشة. هنا تحل الحرب محل السياسة، وتنتفي التسويات جوهريا. وعلى هذا النحو ننزلق إلى صراع عدمي مبدد للموارد ومدمر للحياة، صراع عبثي ولا إنساني، رجعي أيضا ولا أفق له. السؤال إذن: كيف نتجنب الحرب المطلقة الدائمة (خوض المواجهات العسكرية بمنطق الصراع الوجودي)، وفي الوقت نفسه نتجنب إذابة الصراع في تسويات وتعاهدات سلمية لا تنفتح بدورها على أفق يتجاوزها (اختزال الصراع الوجودي إلى نزاع سياسي)؟
بعلمنة الصراع. أي بالفصل بين مستوييه الوجودي والسياسي. فنعمل على تهدئة المواجهة العسكرية، ونقبل التسويات والصفقات.. (كما قد نقبل من حيث المبدأ مواجهات جزئية تتحكم بها السياسة). لكن ندرج ذلك في ما قد نسميها استراتيجية تمكين وجودي، تمنح الأولوية القصوى لنهضة مجتمعاتنا وتقدمهاوحريتها. هذه المجتمعات، وليس أية نخب أو زعامات غير منتخبة، هي صاحبة الشأن في هذا الصراع.
ما الذي تفعله الدول العربية اليوم؟ بعضها، مصر والأردن وسلطة عباس في رام الله ونخب سياسية وثقافية هنا وهناك، تبرز بحق شرعية التسوية أو حتى وجوبها أحيانا، لكنها تغفل البعد الوجودي من الصراع، كما لو أن إسرائيل خصم سياسي عادي على نحو ما كانت انكلترا خصما لمصر يوما، وعلى نحو ما يمكن أن تكون أثيوبيا أو غيرها اليوم. وما يغيب هنا ليس شيئا إدراكيا (وعي الطبيعة الوجودية للصراع)، بل ما يتعين أن يترتب على هذا الوعي من استراتيجية وطنية مصرية، أعني بناء مصر وأنسنة الدولة المصرية والاعتناء بحياة المصريين وحرياتهم. لم يتحقق تقدم يذكر على هذه الصعد طوال ثلاثين عاما من الصلح المصري الإسرائيلي. بعض آخر من الدول العربية، سورية بخاصة ونخب سياسية وثقافية هنا وهناك،تجمع بين قبول واقعي وإجرائي بمبدأ التسوية والصلح.. وبين تصور وجودي للصراع، لكن دون مقتضيات هذا التصور الحضارية والتاريخية، أي بناء سورية وأنسنة الدولة وتمكين السوريين ماديا وسياسيا وثقافيا. السنوات والعقود
تمضي، والبلاد تتأخر ونوعية الحياة فيها تتدهور والتسوية تتعثر، لكن النظام "يستقر ويستمر".
والواقع أن تجنب التسوية ذاته قد يكون أمرا مرغوبا، لكن بشرط أساسي: بناء البلد وتمكين الموطنين. فإن تمحورت استراتيجيتنا الوطنية حول هذا الشرط كان الأنسب في رأينا هو تجنب التسوية والمواجهة معا، أي حالة اللاحرب واللاسلم.وبعض ثالث، المنظمات الإسلامية (حماس والجهاد الإسلامي وحزب الله) ومساندون لها هنا وهناك، أقرب إلى وضع "الحرب المطلقة"، وقد تركن إلى حالة لا حرب واقعية وغير تفاوضية، لكنها ترفض التسوية مبدئيا، ولو بمعنى إجرائي. إن مفهوم هذه المجموعات لمواجهة إسرائيل يجمع بين تصور الصراع الوجودي والجاهزية العسكرية والسياسية هنا والآن ("الحرب المطلقة"). لكن تحول دون التقاء ومطابقة المستويين العسكري والوجودي هنا الإمكانيات الواقعية، وليس الاعتقادات الدينية السياسية. وكما قد نتوقع فإن قوى إسلامية كهذه لا تقبل، لا من حيث المبدأ ولا عمليا، علمنة الصراع أوالفصل بين وجهيه الوجودي والسياسي. والواقع أن التعذر العملي للحرب المطلقة مع صدورنا عنها موضوعيا هو ما يفتح الباب لتديين صراعنا مع إسرائيل (ومع الغرب) وما يستبطن احتمالا لتوسل السلاح النووي (السلاح المطلق) من قبل إسرائيل. وهذا ما يتعين علينا تجنبه حتما، وهو مسوغ إضافي لتجنب الحرب المطلقة، المتولدة كماقلنا عن تحويل صراع وجودي إلى صراع عسكري وسياسي هنا والآن. من جهتنا يغدو الدين السند المطلق لمواجهة وجودية لا تتوفر لنا حاليا وفي المدىالقريب فرص الفوز فيها، ولا نبادر إلى تحويل وجهتها عن العنف والوسائل العسكرية. لقد خضنا دوما، قوميين ويساريين وإسلاميين، صراعا وجوديا بمنطق سياسي وعسكري آني، لم نتشكك فيه أو نحاول توضيحه وضبط شروطه وحدوده وتوقعاتنا منه. هذا رغم أن جملة السياسات والترتيبات الثقافية التي تتمحور حول صراع مطلق مع إسرائيل تعرض اقترانا أكيدا بالاستبداد والانحطاط الاجتماعي، وتخلع أركان وجودنا ذاته، وإن أمكن لبعض وقائع الصراع المطلق هذا أن تلحق بعض الأذى بعدونا.
ترى، بم يمكن أن نصف وجودنا السياسي والثقافي والاقتصادي والعلميوالسيكولوجي، في عالم اليوم، غير أنه وجود مُخلّع وبلا ركائز؟ يفترضالمرء أننا راسخون وجوديا، لا تهز جبل وجودنا ريح، على نحو كان يفضل أنيقول المرحوم أبو عمار. لكن هذا ربما ينطبق على ماهيتنا أو هويتنا، علىالثقافة والأرض والدين، لا على وجودنا في العالم وفي التاريخ.
أو هذا ما يبدو أننا نظنه دونما برهان. ولعل هذا الظن بأن وجودنا راسخ،لا يتقلقل ولا يستنفد، يكمن وراء طيشنا واستهتارنا بالعدو وحلفائه. نشعرأن الله معنا، ورياح الأرض كلها لا يمكن أن تهز جبلنا الوجودي، خلافا للتلة الإسرائيلية المصطنعة. لكن في هذا التوكل الديني السلبي، المفصولعن أي "إعقال" وتمكين، ما يهدر حياة أجيال منا ويهدد جديا بتلاشيناوتبعثرنا. إن هويتنا بالذات تتعرض اليوم للتآكل بقدر ما تضعف عملياتالتماهي الثقافي والوجداني المغذية لها. من يتماهى اليوم جديا وإيجابيا بالعروبة إن كان له الخيار؟ وما هي النماذج الجذابة، سياسيا وثقافياوأخلاقيا، التي تعرضها تعبيرات العروبة السياسية، سلطات كانت أم منظمات أم أفرادا؟ إن هشاشتنا الوجودية المتمادية تفضي إلى تسرب النخر إلى صلبهويتنا، فلا يبقى منها غير اختلاف محض، مفرغ من أية قيمة تحررية وإنسانية عامة.
فإن كان لنا أن نقلب المسار ونقوي الهوية العربية فالأولوية لإصلاح وجودنا، وليس للمتاجرة بالعروبة وفلسطين في بازارات السياسة الإقليمية والدولية. وأول إصلاح الوجود إصلاح السياسة والدولة، أنسنتهما. فالسياسة التي يمكن تدير صراعا وجوديا مع إسرائيل الصهيونية ينبغي أن كون مسترخية ومتحررة من القلق على وجودها هي، فلا تتوسل تنظيمات استثنائية لحكم مجتمعها، ولا تمنح نخبها لنفسها مرتبة وجودية تفوق مرتبة مواطنيها. إنها سياسة أمة المواطنين المتحررين لا سياسة الهوية، الانقسامية بطبيعتها،والتي ترتق فتوق الوجود بتمزيق الهوية الجامعة. إنها السياسة الوطنية التي تجمع بين عمق ثقافي وتاريخي وبين آليات الحكم وصنع القرار الديمقراطية. هذه السياسة يمكن أن تسالم إسرائيل حينا، وقد تخوض معها مواجهات محسوبة حينا (إن فشلت، يدفع الثمن أصحاب القرار)، لكنها تتفادى مواجهة مفتوحة حتما؛ وهي لا تخشى المزايدة عليها لأن شرعيتها تستند إلى خيارات المواطنين الحرة لا إلى تسييس الهوية.
ليس هناك وصفة بسيطة للتحول نحو سياسة كهذه، لكن أهم ما يحول دونها هو مصالح جزئية، لسلطات ومنظمات وجماعات..، تتوسل الصراع مع إسرائيل لتعزيز نفوذها وتمديد أجلها في الحكم. والإرادة السياسية المفتقدة عند الكلام على إصلاح العلاقات العربية هي ذاتها أول ما يفتقد عند الكلام على إصلاح الدولة والسياسة في بلداننا. هذا بينما تتوفر الإرادة هذه بسهولة للقمع وتحصين نظم الاستثناء. ترى، هل هناك ذرة جدية في خوض صراع كهذا بمجتمعات مقيدة تشلها قوانين الطوارئ وثقافة الطوارئ؟ هذا الوجود المخلخل، المعدوم الكثافة، يقلد إسرائيل من حيث يبدو أنه يقف في وجهها. فكما تحمي الدولة العبرية وجودها بالقوة، ومنها السلاح النووي، تحمي سلطاتنا نفسها بالقوة،بما فيها العنف الماحق ضد سكانها.
وللأسف يظهر أكثر المثقفين، من يفترض أن يعوّل عليهم من أجل التوضيح وجلاء الإكراهات المفهومية والمنطقية التي لا يمكن الفوز في أية معركة عامة ضدها (منها مثلا أن الصراع الوجودي ليس صراعا عسكريا مباشرا وإلا انفتح على حرب مطلقة وسلاح نووي، ومنها مثلا أن الدين لا يمكن أن يكون دولة، ومنها أن الطارئ لا يجوز أن يكون أبديا، والجمهورية لا يصح أن تغدو ميراثا..؛ فإن فرض ذلك كله قسرا انحلت العقول والمجتمعات وصار كل شيء جائزا، وهذا هو بالضبط "دستور" القوي)، أقول يظهر المثقفون روح امتثال ونزوعا إلى التماهي التام بالقبيلة، وفي غير قليل من الأحيان عدوانية شرسة ضد أي جهد ثقافي نقدي وتوضيحي.
في الختام، ينبغي حتى لو قدرنا أن لا نعمد إلى إنهاء إسرائيل بضربة ماحقة، يبدو أنها تسكن المخيلة العربية بلا منافس، بل أن نحجمها ونحتويها وندفعها إلى الانحلال والتفكك على نحو ما جرى للاتحاد السوفييتي في نهاية الحرب الباردة. فإذا أمكن التخلص من إسرائيل أو نزع صهيونيتها بعد قرن دون قطرة دم، فإن هذا مفضل على تدميرها الآن أو في أي وقت. وهو أكثر إنسانية من وجهة نظر مستقبلنا ومستقبل العالم.
ومن شأن تمكيننا الوجودي أن يجعل الزمن في صالحنا، خلافا لما هو الحال الآن حيث يبدو أن كل يوم يمضي هو خسارة جديدة ومكسب يضاف إلى حسابإسرائيل.
وكخلاصة عامة، فإن إصرارنا على الجمع بين صراع وجودي وصراع عسكري يخاض هنا والآن، أو إخفاقنا في التمييز بين الوجهين وبلورة سياسات تلبيهما معا (تجنب المواجهة العسكرية وبناء بلداننا) يفضي إلى حصائل عكسية تماما: المزيد من الهشاشة الوجودية في صفنا وتمكين عدونا المتفوق عسكريا من الفتك بنا، مع إظهار ذلك كدفاع مشروع ضد مشاريعنا الإبادية. فهل يعني ذلك
أننا بلا عقل، أم أننا متواطئون مع عدونا؟ جوابنا: فتش عن السلطة!
أو هذا ما يبدو أننا نظنه دونما برهان. ولعل هذا الظن بأن وجودنا راسخ،لا يتقلقل ولا يستنفد، يكمن وراء طيشنا واستهتارنا بالعدو وحلفائه. نشعرأن الله معنا، ورياح الأرض كلها لا يمكن أن تهز جبلنا الوجودي، خلافا للتلة الإسرائيلية المصطنعة. لكن في هذا التوكل الديني السلبي، المفصولعن أي "إعقال" وتمكين، ما يهدر حياة أجيال منا ويهدد جديا بتلاشيناوتبعثرنا. إن هويتنا بالذات تتعرض اليوم للتآكل بقدر ما تضعف عملياتالتماهي الثقافي والوجداني المغذية لها. من يتماهى اليوم جديا وإيجابيا بالعروبة إن كان له الخيار؟ وما هي النماذج الجذابة، سياسيا وثقافياوأخلاقيا، التي تعرضها تعبيرات العروبة السياسية، سلطات كانت أم منظمات أم أفرادا؟ إن هشاشتنا الوجودية المتمادية تفضي إلى تسرب النخر إلى صلبهويتنا، فلا يبقى منها غير اختلاف محض، مفرغ من أية قيمة تحررية وإنسانية عامة.
فإن كان لنا أن نقلب المسار ونقوي الهوية العربية فالأولوية لإصلاح وجودنا، وليس للمتاجرة بالعروبة وفلسطين في بازارات السياسة الإقليمية والدولية. وأول إصلاح الوجود إصلاح السياسة والدولة، أنسنتهما. فالسياسة التي يمكن تدير صراعا وجوديا مع إسرائيل الصهيونية ينبغي أن كون مسترخية ومتحررة من القلق على وجودها هي، فلا تتوسل تنظيمات استثنائية لحكم مجتمعها، ولا تمنح نخبها لنفسها مرتبة وجودية تفوق مرتبة مواطنيها. إنها سياسة أمة المواطنين المتحررين لا سياسة الهوية، الانقسامية بطبيعتها،والتي ترتق فتوق الوجود بتمزيق الهوية الجامعة. إنها السياسة الوطنية التي تجمع بين عمق ثقافي وتاريخي وبين آليات الحكم وصنع القرار الديمقراطية. هذه السياسة يمكن أن تسالم إسرائيل حينا، وقد تخوض معها مواجهات محسوبة حينا (إن فشلت، يدفع الثمن أصحاب القرار)، لكنها تتفادى مواجهة مفتوحة حتما؛ وهي لا تخشى المزايدة عليها لأن شرعيتها تستند إلى خيارات المواطنين الحرة لا إلى تسييس الهوية.
ليس هناك وصفة بسيطة للتحول نحو سياسة كهذه، لكن أهم ما يحول دونها هو مصالح جزئية، لسلطات ومنظمات وجماعات..، تتوسل الصراع مع إسرائيل لتعزيز نفوذها وتمديد أجلها في الحكم. والإرادة السياسية المفتقدة عند الكلام على إصلاح العلاقات العربية هي ذاتها أول ما يفتقد عند الكلام على إصلاح الدولة والسياسة في بلداننا. هذا بينما تتوفر الإرادة هذه بسهولة للقمع وتحصين نظم الاستثناء. ترى، هل هناك ذرة جدية في خوض صراع كهذا بمجتمعات مقيدة تشلها قوانين الطوارئ وثقافة الطوارئ؟ هذا الوجود المخلخل، المعدوم الكثافة، يقلد إسرائيل من حيث يبدو أنه يقف في وجهها. فكما تحمي الدولة العبرية وجودها بالقوة، ومنها السلاح النووي، تحمي سلطاتنا نفسها بالقوة،بما فيها العنف الماحق ضد سكانها.
وللأسف يظهر أكثر المثقفين، من يفترض أن يعوّل عليهم من أجل التوضيح وجلاء الإكراهات المفهومية والمنطقية التي لا يمكن الفوز في أية معركة عامة ضدها (منها مثلا أن الصراع الوجودي ليس صراعا عسكريا مباشرا وإلا انفتح على حرب مطلقة وسلاح نووي، ومنها مثلا أن الدين لا يمكن أن يكون دولة، ومنها أن الطارئ لا يجوز أن يكون أبديا، والجمهورية لا يصح أن تغدو ميراثا..؛ فإن فرض ذلك كله قسرا انحلت العقول والمجتمعات وصار كل شيء جائزا، وهذا هو بالضبط "دستور" القوي)، أقول يظهر المثقفون روح امتثال ونزوعا إلى التماهي التام بالقبيلة، وفي غير قليل من الأحيان عدوانية شرسة ضد أي جهد ثقافي نقدي وتوضيحي.
في الختام، ينبغي حتى لو قدرنا أن لا نعمد إلى إنهاء إسرائيل بضربة ماحقة، يبدو أنها تسكن المخيلة العربية بلا منافس، بل أن نحجمها ونحتويها وندفعها إلى الانحلال والتفكك على نحو ما جرى للاتحاد السوفييتي في نهاية الحرب الباردة. فإذا أمكن التخلص من إسرائيل أو نزع صهيونيتها بعد قرن دون قطرة دم، فإن هذا مفضل على تدميرها الآن أو في أي وقت. وهو أكثر إنسانية من وجهة نظر مستقبلنا ومستقبل العالم.
ومن شأن تمكيننا الوجودي أن يجعل الزمن في صالحنا، خلافا لما هو الحال الآن حيث يبدو أن كل يوم يمضي هو خسارة جديدة ومكسب يضاف إلى حسابإسرائيل.
وكخلاصة عامة، فإن إصرارنا على الجمع بين صراع وجودي وصراع عسكري يخاض هنا والآن، أو إخفاقنا في التمييز بين الوجهين وبلورة سياسات تلبيهما معا (تجنب المواجهة العسكرية وبناء بلداننا) يفضي إلى حصائل عكسية تماما: المزيد من الهشاشة الوجودية في صفنا وتمكين عدونا المتفوق عسكريا من الفتك بنا، مع إظهار ذلك كدفاع مشروع ضد مشاريعنا الإبادية. فهل يعني ذلك
أننا بلا عقل، أم أننا متواطئون مع عدونا؟ جوابنا: فتش عن السلطة!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق