مساء الخير...
اليوم سأحدثكم عن أكثر ما يذهلني في اليابان... الشيء الذي أعتقد أنه يميز اليابان عن كل هذا العالم الواسع المترامي الأطراف... السر البسيط الذي يحكم الحياة هنا... ويحدد كل شيء... تستشعره في كل زاوية وعند كل منعطف... تستنشقه مع كل نسمة وتراه في ثنايا الابتسامات وتجاعيد الوجوه...
الثقة...
كلنا سمعنا عنها... متى كانت آخر مرة شعرت بها فعلاً... الثقة كخيار أول أكيد... الثقة بكل ما حولك وثقة الجميع بك... للأسف ترتبط الثقة مباشرة بمفاهيمنا عن الطفولة البريئة... وفي المرحلة اللاحقة نربطها بالسذاجة ومن ثم بالغباء... لدي الكثير لأتكلمه هنا ولكنني أثق أن مخيلتكم وتجاربكم كافية لتعطي صورة عن حالة المجتمع البائس... حيث إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب... فكيف إذا كنت حملاً وديعاً ساذجاً وغبياً (طبقاً للتصنيف السابق...)... وهل تتوقع أن تنجو من ثقافة طق البراغي وتلك الأخرى التي تدعى اللف والدوران...
بالمناسبة أزمة الثقة ليست أزمتنا فقط فأينما تنقلت بين دول العالم ستجد نفس الثقافة بشكل متفاوت... ببساطة عالجتها الدول المتقدمة بالقوانين الصارمة... أي هو عبارة عن صراع خفي بين الإنسان المحتال والقانون المدعم بالتكنولوجيا... فأوجدنا كاميرات المراقبة وأجهزة كشف الكذب...و و و... قد يكون فعلاُ هذا الحل الواقعي فكيف لي أن أثق بك بدون وسائل مساعدة... وبالطبع هذا الحل الأسهل...
عندما أتيت إلى هنا وجدت شيئاً آخر.. شيئاً خارج المألوف... أو بصراحة شيئاُ لم أكن أتوقع وجوده... بدأت رحلتي مع بداية العام الدراسي هنا وحضوري المقررات...أول ملاحظة وجدتها أن جميع اليابانيين يكتبون محاضراتهم بقلم الرصاص حتى التقارير الأسبوعية كتبوها بقلم الرصاص.... بدا لي الأمر غريباً نوعاً ما... فأنا منذ سنواتي المدرسية الأولى لم أستخدم قلم الرصاص... لنقل أنني تقبلت الأمر على أساس اختلاف العادات لا أكثر... يوم الإمتحان أصابتني صدمة عندما رأيتهم يكتبون الإجابات بأقلام الرصاص... للحظات كنت سأقول لهم "ألا تخافون أن يزوّر الدكتور الورقة..." تمالكت نفسي وأفكاري تتضارب بين يا لسذاجتهم (تشعر وأنت تتعامل مع الياباني بالمثل الدارج :القط بياكل عشاه) أو يا لسذاجتي فكيف لدكتور أن يزوّر الورقة... أو بالأحرى لماذا يزوّرها..؟؟... أمسكت قلمي الرصاص و بدأت الكتابة.... للصراحة شعرت براحة كبيرة فأنت لست بحاجة لتشطيب... وقراءة ورقة الإجابة (1) في النهاية مريحة لك وللمصحح... مرت دقائق معدودة وقد كنت تعافيت جزئيا من صدمتي الأولى وبدأت أفكر في الإجابات... فجأة ومن دون سابق إنذار خرج الدكتور من القاعة... للحظات كنت أتوقع شيئاً ما... ربما كنت أتوقع بدء الشوشرة والأصوات التي طالما اعتدت سماعها في سوريا...(أو ما يسمى بالسوري استغلال الفرصة...).. ترك الدكتور القاعة وسط ذهولي وتأملي للقاعة... وكأن شيئاُ لم يحدث... فمازال الجميع مندمجين بأوراقهم وآلاتهم الحاسبة... وكأنني الوحيد الذي لاحظ خروج الدكتور... عدت إلى ورقتي والأفكار تتلاطم ... كان سؤال يحيرني.... مالذي يحدث هنا..؟؟... وبين توقعاتي بعودة الدكتور بين لحظة وأخرى انتهى الوقت... وإذا به يدخل طالباً جمع الأوراق...
طرح هذا الامتحان علي تساؤلات كثيرة... قد تستطيعون إجابتي على إحداها...
هل يحدث هذا في مكان آخر...؟؟؟
هذا السؤال قد يجيب فضولي... هل جميع الدول المتقدمة وصلت إلى هذه الثقة أم أنه شرق آسيا مختلف... أم أن اليابان نيقة عن الخليقة...
ما أود أن أقوله أن الحادثة السابقة ليست الوحيدة... تكرارها جعلني أعتاد الموضوع ولكنها كانت البداية التي لفتت نظري إلى موضوع الثقة هنا... الثقة التي تستشعرها بشكل صارخ في كل لحظة وفي كل كلمة وكل حدث... أصبحت رغبتي ليست التأكد من وجود هذه الثقة... فهي موجودة... ولكن تساؤلاتي التالية كانت لأي درجة؟؟؟... حادثة أخرى قد تكون بسيطة ولكنها معبرة...
في أحد الأيام احتجنا موافقة الدكتور المشرف على شراء معدات كنا قد تناقشنا بها مسبقاُ واتفقنا على شرائها... الموافقة تعني أن يقوم بختم طلبات الشراء لمختلف الطلاب قبل نهاية السنة المالية للجامعة(اليابانيون يستعملون الختم واستخدام التوقيع غير معروف إلا في أوساط الأجانب..)... ونتيجة لانشغال الدكتور وتحضيره للسفر لحضور مؤتمر فقام باعطاء الختم لأحد طلاب المخبر ليختم جميع الطلبات ويعيده بعد الانتهاء... ((لم يفكر الدكتور للحظة بأن الطالب سيستخدم الختم لأشياء أخرى غير المتفق عليها..))
الثقة هذه تمتد إلى مختلف نواحي الحياة الأوسع... مثلاً الأمان في اليابان شيء لا يمكن مقارنته بأي شكل من الأشكال بأي مكان آخر في العالم... وعودة كل أشيائك الضائعة انعكاس آخر لثقة الفرد بالمجتمع... وثقة المجتمع بالفرد... قد يكون هذا يحتمل تشعبات كثيرة تستلزم حديثاً أطول ولكنني سأكتفي اليوم... على أمل اللقاء بكم مجدداً...
تصبحون على خير...
---
تصبحون على خير...
---
(على الهامش:
(1) أوراق الإجابة هي أوراق بيضاء بلا مثلاثات سود أو حمر لتغطية الإسم... وهي غير مسطرة بالمناسبة... وعدم التسطير خلق مشكلة حقيقية بالنسبة لي فأنا لست معتاداً على الكتابة في الأوراق البيضاء.
كيفك سومر
ردحذفبعتقد انك بفعل تعجبك من الواقع بالغت كتير بوصفه
بجوز يكون بالمؤسسة التعليمية اليابانية في نوع من أنواع الوعي انه الطالب اللي مو دارس مافي داعي يفوت وينقل وانه الدرس بالأول والأخير لمصلحة الطالب قبل ما يكون بهدف نيل الشهادة
وقصة الأقلام الرصاص برأي لازم تكون هية المنطق وهية العرف السائد ..انه مافي داعي احفر اجابتي حتى اضمن ما حدا يتلاعب فيها
بس لو اتطبقت عنا بجو الغطرسة تبع الدكاترة والفساد ( الله وكيلك عم يكتبوا الطلاب بالأزرق وشي ماله علاقة بالمادة وعم ينجحوا .. هي احدث الأساليب بالرشوة اذا بدك بحكيلك عليها لأنها عنجد ما بتخطر للجن الأزرق )
هلشي ما بيعني انن مو متقدمين من ناحية التعامل الاكاديمي عنا بسوريا بس كمان ما بيعني انه عندن عامل الثقة بانين عليه فكرن وعقائدن
قد يكون هلشي موجود بس ما بعتقد الحادثة هي يمكن الاستدلال على الثقة من خلالها
موفق بالامتحانات
أهلا غابرييل...
ردحذفعن التعجب فحق معك أنا تعجبت... يعني في انقلاب بالمفاهيم 180 درجة مع اللي كنت عم شوفوا بسوريا...
الثقة موضوع أنا فعلاً ما لم أبالغ به.. ممكن حادثة واحدة مثل الامتحان لا تعطي الصورة بشكل كامل ... ولكنها عبارة عن لقطة من المجتمع الياباني وبجمعها مع لقطات أخرى تصبح الصورة أكثر تكاملاً... على كل بمرات قادمة سوف أقوم بذكر أمثلة أخرى...
ما أود أن أقوله هنا أنا هذا المجتمع رسخ مفهوم الثقته كمنظم لعلاقة الأفراد ببعضهم البعض...
أهلا بمرورك..
ممتعة هاليوميات جدا
ردحذفوبالنسبة لموضوع الثقة فليست غريبة على هيك مجتمع استطاع تحقيق هالقفزات العملاقة
تحياتي
أهلا عبدالسلام..
ردحذفأسعدني مرورك... أتفق معك فتطور الدول لا يأتي عبثاً ولدي اعتقاد أن العوامل الاجتماعية والظواهر الناتجة عنها كالثقة والأمان و..و.. هي الأساس الخفي وراء النهضة..
مجرر مدونة سيريا توك
ردحذفتحية الود
تم اختيار مدونتك لتكون الموقع المميز في "صفحات سورية" لهذا الأسبوع
http://www.alsafahat.net/blog/?cat=99
نتمنى لك التقدم والنجاح
أسرة موقع صفحات سورية.
تم إرسال هذه الرسالة كملاحظة على إحدى مقالاتك، لأننا لم نهتد الى ايميلك لإرسال هذه الرسالة إليك
سلامات سومر،
ردحذفأكيد ما في اختلاف على وجود الثقة، أو بالأحرى المراقبة الذاتية في المجتمع الياباني بشكل كبير، وهو على مبدأ الجميع شريف حتى تثبت إدانة أحدهم، وأكيد ما في داعي أذكر شو المبدأ المعمول به في المجتمعات الأخرى.
إضافة صغيرة بالنسبة لموضوع أقلام الرصاص، فالسبب الرئيسي أنه بالكتابة اليابانية ليس من المفترض وجود شطب لأحرف أو إعادة كتابة فوقها ولذلك تكون الكتابة بأقلام رصاص. كإضافة صغيرة، أحيانا بيتطلب الأمر مثلا عند كتابة رسائل خطية أو طلبات رسمية الكتابة بقلم حبر وعند حصول أخي خطأ بكون من المفروض على الشخص إعادة الكتابة من جديد لحتى يحصل بعد عدة محاولات على نص خالي من أي شطب أو تحوير.
أخيرا بتمنالك التوفيق بامتحان قلم الرصاص :)
أهلاً صديقي...
ردحذفمبدأ المراقبة الذاتية هيدا ذاهلني بصراحة...
أما عن كتابة الأوراق الرسمية.. فحدث ولا حرج يعني كل ما بدي أكتب شي ورقة بحس حالي نازل على معركة ... بدها تحضير وبال طويل و..و... وبالأخير إذا عملت شي شحطة قلم بالغلط بتروح الورقة عـ سلة المهملات..
بس أحيانا إذا طلع الموظف متعاون بمرقلنا كم تشطيبة...
بالمناسبة ليش معتزل الكتابة بالفترة الأخيرة... ؟؟؟
بانتظار جديدك
تحياتي
شكرا على سؤالك عن كتاباتي.
ردحذفأمس كان في خاطرة صغيرة أضفتها، لذلك تذكرت الأصدقاء القدماء ومررت لإلقاء التحية. في الواقع، مشغول مؤخرا على ويكيبيديا العربية، تبين لي أنه من الصعب تكوين ثقافة فردية عربية فقط من خلال المدونات بدون وجود ثقافة عامة على الإنترنت من خلال الكتب والمعلومات الأساسية الموسوعية. لذلك بانتظار مشاركاتك ومشاركة الجميع لمن يهتم بالموضوع.
تحية
أهلا مرة ثانية..
ردحذفقرأت خاطرتك الجميلة... أحيي جهودك بالنسبة لوكيبيديا
للأسف فإنني مازلت عنصراً مستهلكاً لوكيبيديا.. ربما في الفترة المقبلة بعد انتهائي من الامتحانات سألتفت إلى المساهمة في الموسوعة..
تقبل ودي