الصفحات

الخميس، 17 سبتمبر 2009

يوميات يابانية -1- المنحة والسفر



صراحة لم أعرف كيف أكتب عن اليابان ولاكيف أبدأ... هل أبدأ بكتابة ما أحببته في هذا البلد الرائع ... أم أكتب عن ما كرهته في هذا البلد الغريب... هل أتحدث عن إنسانية اليابانيين وطيبتهم أولاً... أم عن زيفهم وانعدام مشاعرهم.... كل ذلك جعلني أتردد في الكتابة...

أكثر مالاحظته فعلاً أن آرائي وآراء الآخرين حول اليابان تتغير باستمرار وهذا هو الحال أيضاً بالنسبة لجميع زوار اليابان... فعندما يأتي الزائر لفترة قصيرة سيرجع مذهولاً بهول مارآه من التطور التكنلوجي والحضاري، ولكن بعد شهور قليلة ستبدأ نظرته بالتغير رويداً رويداً... ويظن نفسه فجأة وكأنه استيقظ من حلم جميل ليصدم بالواقع كالأطفال... يبدأ من جديد بالتأقلم... وعادة ما يصل بعد السنة الثالثة إلى سن الرشد مجدداً ... مرة سألت أستاذي في الجامعة (وهو ألماني الجنسية متزوج ومستقر في اليابان منذ أكثر من ثلاثين سنة) سألته متى آخر مرة فوجئت باليابان... فأجابني بعد عشرين سنة...

لذلك وجدت أنه من الأنسب بدل إطلاق الأحكام هنا وهناك، أن أشارككم تجربتي. أترككم تصدمون بما صدمت وتذهلون بما ذهلت... وتصلون لأحكامكم الشخصية حول الأحداث... وبالنسبة لي قد تساعدني يومياتي هذه على إلقاء نظرة ثانية على أحكامي وربما فهم اليابان أكثر...

في نيسان 2007 ذهبت للسفارة اليابانية للتقدم لمنحة الحكومة اليابانية، وكان الطلب عبارة عن ورقة واحدة تملأ فيها الاسم ،الاختصاص، المعدل، عنوان الدراسة وأشياء أخرى... كانت هذه الورقة عمومية لأبعد الحدود... هنا بدأت مسيرة من العمل والإنتظار استمرت حوالي أربع شهور بين تقديم أوراق أخرى وامتحانات ... وانتهت بالمقابلة النهائية حيث يصل 15 يتم انتقاء 6 واثنان احتياط...هنا اختلفت المشاعر ففي المراحل الأولى كان كل شيء مازال احتمالياً فالوصول إلى المنحة بين 600 منافس آخرين لم يكن بشعور 9 منافسين... ولكن في الوقت نفسه ترى أن هؤولاء الـ14 الآخرين تم انتقاؤهم بعناية... كان الشعور غريباً بين أنك وصلت ولم تصل ... بالمناسبة كانت هذه أول مقابلة تقييم أخوضها في حياتي...

ذهبت إلى المقابلة بعد ليل طويل قضيته في محاولة النوم، والتأكد من حالة الساعات التي قمت بتعييرها إن كانت ما تزال تعمل... كان ترتيبي هو الاول في الدخول... وكان ذلك جيداً بالنسبة لي فأكثر ما أكره هو الانتظار في تلك المواقف... دخلت الغرفة وإذا بطاولة طويلة، أعتقد أن عدد أعضاء التقييم بين 8 إلى 11 (يتخللهم بعض السوريين) فأنت تجلس في الوسط وهم يمتدون أمامك من أقصى اليمين لأقصى اليسار... بدأت الجلسة بتعريفي عن نفسي (باللغة اليابانية) ثم بدأ دفق الأسئلة، أهم ما لاحظته ... أنه لم أستطع تبيان أي نوع من المشاعر في وجوه اللجنة... ولا أية ردود فعل، هل أعجبهتهم إجاباتي أم لا... حتى أنني لم ألحظ أي ابتسامة، وهذا منعني من الوصول لأي تقييم شخصي حول المقابلة...

مر يومان آخران قبل أن أتلقى الاتصال السعيد...
(( "السيد سومر.."
"نعم"
"معك السفارة اليابانية القسم الثقافي ....لقد تم ترشيحك لتلقي منحة الحكومة اليابانية"
"نعم"
"حظاً موفقاً"))
بالمناسبة هم يقولون ترشيح لأن الأوراق ترسل بعدها إلى طوكيو ويتم إعادة دراستها قبل ظهور النتيجة النهائية... ورغم أنه لم يحدث أن رفضت أوراق أي مرشح من قبل السفارة إلا أنه يحرصون دائماً على القول بأن القرار النهائي للمنحة لم يتخذ وعليك الانتظار... وهذا الشيء متأصل في الثقافة اليابانية... حيث لا يمكنك أن تأخذ كلمتي نعم أو لا ودائما يستبدلها اليابانيون بكلمة ربما... في البداية خلق هذا الكثير من سوء الفهم... مثلاً تسأل التيوتر (1) "هل علينا تقديم أي تقرير الأسبوع القادم؟؟" ويكون جوابه دائماً "ربما..." وهذا الجواب يمكن أن يعني أنه يوجد تقرير مهم يجب تسليمه... وفي حالات أخرى قد يعني أنه لايعرف....وقد يعني "لا" في ظروف أخرى وهذا رائج في المؤسسات الحكومية والشركات أيضاً ... كون الموضوع عائد لثقافة اليابانيين وطريقة تحليلهم للأمور وهناك الكثير من الأمثلة عن سوء الفهم الناتج عن هذا الموضوع سأتركها لمرات لاحقة... (قد يكون المقابل الحرفي لذلك في الثقافة العربية هو كلمة انشالله... حيث كثيراً ماتسبب سوء فهم للأجنبي فهو أيضاً لايعرف القصد تماماً هل هو نعم أم لا..)

في شباط 2008 وصلنا الرد النهائي من السفارة... وبدأت التحضيرات النهائية للسفر... فيزا، بطاقة طائرة... في هذه المرحلة كل شيء كان سهلاً وعبر الإيميل فقط...
بدأت رحلتي 1 نيسان التاسعة مساء ووصلت إلى وجهتي الأخيرة بعد رحلة استمرت أربعاً وعشرين ساعة توقفت خلالها في دبي وأوساكا قبل أن أصل حوالي الساعة التاسعة والنصف من مساء اليوم التالي إلى مطار فوكوكا... حيث كان بانتظارنا موظفة من مكتب الطلاب الأجانب في الجامعة...
مطار أوساكا
موعد الإقلاع ، أوساكا
ركبنا السيارة وجلست إلى النافذة محاولاً استطلاع ملامح هذه المدينة... لم تمضي سوى دقائق حتى صعدت السيارة أحد الجسور المعلقة (2)... مضت نصف ساعة أخرى وأنا غارق في الأفق قبل أن ننزل عن الجسر ندخل طرقاً فرعية ثم لا تلبث أن تتوقف السيارة ضمن ساحة الكايكان (السكن الطلابي) نزلت من السيارة ونظرت حولي كان الساعة قد اقتربت من العاشرة... ظهر لي الكايكان ضخماً لدرجة أنني كنت أفكر هل سأستطيع تذكر طرقاته حتى لا أضيع(3)...

استلمت مفاتيح الغرفة... دخلت ووجدت بطاقة هاتفية على الطاولة سلمتنا المشرفة بعض الأغطية... وستائر للنوافذ... اتصلت بأهلي لأخبرهم أنني وصلت... ونمت يومها نوماً عميقاً....

مطار فوكوكا
----------
(1) التيوتر: يعين تيوتر لكل طالب أجنبي... وهو طالب من المخبر نفسه -ياباني غالباً- يكون مسؤولاً عن مساعدتك في حل المشاكل التي تواجهك في الأمور العلمية أو الحياتية...
(2) في اليابان تمتد الجسور المعلقة ضمن المدينة نفسها وتعرف بالهاي وي أو الطريق السريع... كون الإشارات المرورية تغزو طرق اليابان فنكاد لا نجد تقاطعاً إلا مزوداً بإشارة ضوئية ... لدرجة أنه عند قيادتك داخل المدينة فباستطاعتك دائماً روئية ثلاث إلى أربع إشارات متتالية... هذه الإشارات تفتح بشكل متتالي (أو ما يعرف بالموجة الخضراء حسب التعريف السوري) ولكن يبقى استخدام هذه الطرق غير عملي للمسافات الطويلة... وهنا تأتي أهمية استخدام الطرق السريعة المدفوعة لاختصار الوقت... وتختلف التسعيرة حسب المدينة وحسب المسافة المقطوعة...
(3) أول الانطباعات التي راودتني هو خوفي من الضياع في هذه المدينة الممتدة بلا نهاية... تسلم نفسك للقدر وتحمد الله أن الجامعة بعثت أحداً لاستلامك... تنظر من نافذة السيارة المتحركة وتحس أنك في وسط اللامكان فكل شيئ بلا عنوان...

هناك 9 تعليقات:

  1. حلو كتير.. معك معك.. أكثرإذااستطعت التفاصيل المملّة.. لديّ الكثير من الأسئلة للحلقات القادمة

    ردحذف
  2. أهلاً صديقي باسل..
    سعيد أن تدوينتي الأولى أعجبتك...
    أما عن التفاصيل فقد تجد الكثير منها كون التفاصيل الصغيرة هي ماشدني وأدهشني في هذا البلد..

    أتمنى أن تشاركني الأسئلة كونها قد تضيئ على نقاط نسيت المرور عليها أوتذكرني بأحداث معينة قد تكون غابت عن بالي...

    ردحذف
  3. أهلاً أمنية نورت المدونة

    عن العدد فالأرقام كما يلي:
    عدد المتقدمين في المرحلة الأولى كان حوالي الـ600
    بيقدم الأبليكيشن بالمرحلة التانية حوالي 250
    بيدخل على امتحان اللغتين انكليزي وياباني 40
    بينجح منهم 15 بيتقدموا للمقابلة
    بيختاروا منهم 6 + 2احتياط

    بس صدقيني إحساس تجاوز المرحلة الأخيرة كان الأصعب ... شعور غريب بيجتاحك ... بتحسي الموضوع متل السراب موجود بس ما بينطال...

    بتمنى دائماً تشاركينا بتعليقاتك خاصة شو رح يعجبك وشو رح يصدمك..

    تحية

    ردحذف
  4. أتابع مدونتك باستمرار, أعتقد أن تدويناتك مثيرة للاهتمام وتشبع فضول القارئ.

    مع التحية

    ردحذف
  5. رزان...
    أهلاً بك دوماً...وشكراً على كلماتك الجميلة...

    ردحذف
  6. سومر.. كتاباتك مميزة جدا أستمتع بقراءتها..
    لعل هذه التدوينة هي الحلقة الأولى من خواطر سومر (على وزن خواطر شاب للشقيري)..

    بالتوفيق وبالمناسبة أشاركك الرأي الذي كتبته ردا على تدوينة العزيز عقبة مشوح..

    ردحذف
  7. وائل..
    شكراً جزيلاً على كلماتك الجميلة...

    أما عن برنامج خواطر فقد كنت من المتحمسين له كوني ومنذ قدومي إلى اليابان وأنا أفكر بالتجربة اليابانية وإمكانية نقلها للعالم العربي... نتيجة التقارب الثقافي والأخلاقي الكبير...

    ردحذف
  8. ميسون دليله09 أبريل, 2014 02:25

    بعد ست سنوات خطر في بالي ان الأول من نيسان ليس كذبه بل هي الحقيقة الكاملة اتمنى من الله يمنحك الفرص الأفضل في على جميع الأصعدة ما حصلت عليه يابني اتى نتيجة جهود متراكمه وقدرات تملكها ومثابرة دائمة أدعو لك بالتوفيق والنجاح والسعادة .أتمنى لك دلئما ماتتمناه لنفسك .

    ردحذف