الصفحات

الاثنين، 11 أغسطس 2008

محمود درويش .. شاعر الكلمة الذي رحل في زمن الصمت

في صمت هذا العصر العاقر رحل صاحب الكلمات الخصبة التي أنتشت بذورها قوافل من الشهداء على امتداد الشارع العربي، رحل شاعر الأرض المحتلة وأرضه لا زالت محتلة،
بل انتشر وباء الاحتلال ليشمل أصقاعاً واسعة من أرض أجداده الممتدة من المحيط الى الخليج. رحل محمود درويش وقد أدرك أن الحياة والموت في معجمه الأسود الحزين على موت أمته أصبحا بنفس المعنى.
وقبل أن يرحل أنشد أشعاراً هادئة حملت لغة جديدة في التخاطب بين شاعر عرفه عشاقه ثائراً شرساً لا يعرف المهادنة منذ أن نشر أول قصائده الشهيره سجل أنا عربي، الى أن وقف في حمص العام الماضي ضمن مهرجان مار اليان الثقافي ليقرأ قصيدته "بقية حياة" التي يقول فيها:
إذا قيل لي..
ستموت هنا في المساء
فماذا ستفعل في ما تبقى من الوقت...
أنظر في ساعة اليد
أشرب كأس عصير
وأَقضم تفاحة
وأطيل التأمل في نملة وجدت رزقها
ثم أنظر في ساعة اليد
ما زال ثمة وقت لأحلق ذقني
وأَغطس في الماء
أهجس.. لابد من زينة للكتابة
فليكن الثوب أزرق
أجلس حتى الظهيرة حيا إلى مكتبي
لا أرى أَثر اللون في الكلمات
بياض بياض بياض
أعد غدائي الأخير
أَصب النبيذ بكأسين.. لي ولمن سوف يأتي بلا موعد
ثم آخذ قيلولة بين حلمين
لكن صوت شخيري سيوقظني
ثم أَنظر في ساعة اليد
ما زال ثمة وقت لأقرأ
أقرأ فصلا لدانتي ونصف معلقة
وأرى كيف تذهب مني حياتي إلى الآخرين
ولا أتساءل عمن سيملأ نقصانها..
هكذا .. هكذا .. هكذا
ثم ماذا ..
أمشط شعري وأرمي القصيدة
هذي القصيدة في سلة المهملات
وألبس أحدث قمصان إيطاليا
وأشيع نفسي بحاشية من كمنجات إسبانيا
ثم أمشي إلى المقبرة.
نظرت اليه وهو يلقي قصيدته فوجدته كغيره من البشر حولي يحاولون أن يعيشوا لحظات من كرامتهم الضائعة على ضفاف دجلة وفي أروقة هيئة الأمم وقاعات المؤتمرات التي لم تنجب في تاريخنا الحديث سوى اليأس والأسى لهذا المواطن المسكين الذي ترجل عن صهوة حصانه منذ أن أضاع قدسه الشريف ليسير بلا هدى بقية حياته.
كانت جميلة تلك اللحظات التي حاولت أن أستعيد فيها انسانيتي الضائعة وأنا أستمع الى كلمات هذا الشاعر الرمز الذي قاده حظه العاثر لأن يعيش في عالم جديد يحاصر حتى الكلمة.
عندما كنت أسمع محمود درويش وهو ينشد قصائده البطولية التي تشعل براكين الأمل في نفوس الشباب المشرد عن ارضه، كنت أرى الأمل يشع من نفسه الغاضبة، لكنه في هذه المرة بدا الاكتئاب مسيطراً عليه عندما بكى آلام جروحه الدامية قبل أن يعري آلام أمته وشعبه. كانت كلماته حول الأحداث الأخيرة في غزة أشبه بسكاكين تقطع جسده النحيل الذي لم يستطع كل جبروت الآلة العسكرية الاسرائيلية أن يحدث فيه طعنة واحدة، بل خرجت دائماً كلماته سيوفاً مشرعة في وجه ذلك المغتصب الجبار.
أنا متأكد أن محمود درويش لم يخف من الموت، فهو الذي قضى عنفوان شبابه يحمل رسالة لا تموت ولعله في كلماته السابقة يريد أن يقول أنه يحق له في هذا الزمن الغامض أن يعيش ويلبس ويشرب ويقرأ ما يريد .. بل أن يموت أيضاً كما يريد. وأذكر كلماته وهو يعبر عن موته المحتمل كموت أي انسان آخر في هذا العالم حيث قال:
لا أعرف الشخصَ الغريبَ ولا مآثرهُ
رأيتُ جِنازةً فمشيت خلف النعش،
مثل الآخرين مطأطئ الرأس احتراماً.
لم أجد سبباً لأسأل: مَنْ هُو الشخصُ الغريبُ؟
وأين عاش، وكيف مات فإن أسباب
الوفاة كثيرةٌ من بينها وجع الحياة
سألتُ نفسي: هل يرانا أم يرى
عَدَماً ويأسفُ للنهاية؟ كنت أعلم أنه
لن يفتح النَّعشَ المُغَطَّى بالبنفسج كي
يُودِّعَنا ويشكرنا ويهمسَ بالحقيقة
( ما الحقيقة؟)
رُبَّما هُوَ مثلنا في هذه
الساعات يطوي ظلَّهُ. لكنَّهُ هُوَ وحده
الشخصُ الذي لم يَبْكِ في هذا الصباح،
ولم يَرَ الموت المحلِّقَ فوقنا كالصقر
فالأحياء هم أَبناءُ عَمِّ الموت، والموتى
نيام هادئون وهادئون وهادئون ولم
أَجد سبباً لأسأل: من هو الشخص
الغريب وما اسمه؟ لا برق
يلمع في اسمه والسائرون وراءه
عشرون شخصاً ما عداي ( أنا سواي)
وتُهْتُ في قلبي على باب الكنيسة:
ربما هو كاتبٌ أو عاملٌ أو لاجئٌ
أو سارقٌ، أو قاتلٌ ... لا فرق،
فالموتى سواسِيَةٌ أمام الموت .. لا يتكلمون
وربما لا يحلمون .
وقد تكون جنازةُ الشخصِ الغريب جنازتي
لكنَّ أَمراً ما إلهياً يُؤَجِّلُها
لأسبابٍ عديدةْ
من بينها: خطأ كبير في القصيدة
كلا أيها الانسان النبيل، فأنت لايمكن أن تموت، فالشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، وليست الشهادة فقط أن نموت برصاص الأعداء، بل قمة الشهادة أن نذوي تحت وطأة الاحتلال الذي لم يترك لنا مجالاً قط لنموت برصاصه. هذا أنت يا شهيد الزمن الصعب تعيش وتموت ككل الشرفاء الباقين في عصر الذل والمهانة ولسان حالهم ينطق بلسانك:
واقفون هنا• قاعدون هنا• دائمون هنا• خالدون هنا•
ولنا هدف واحد واحد واحد: أن نكون•
ومن بعده نحن مختلفون على كل شيء:
على صورة العلم الوطني
(ستحسن صنعا لو اخترت يا شعبي الحي رمز الحمار البسيط)•
ومختلفون على كلمات النشيد الجديد
(ستحسن صنعا لو اخترت أغنية عن زواج الحمام)•
ومختلفون على واجبات النساء
(ستحسن صنعا لو اخترت سيدة لرئاسة أجهزة الأمن)•
مختلفون على النسبة المئوية، والعام والخاص،
مختلفون على كل شيء• لنا هدف واحد: أن نكون••
ومن بعده يجدُ الفرْدُ متسعاً لاختيار الهدفْ•
وداعاً محمود درويش .... فقد مضى برحيلك حلم ثوري لن يتكرر
syria-news.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق